بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻
تخيل معي شجرةً عتيقة ، تضرب جذورها في أعماق الأرض ، تتهاوى فروعها تحت وطأة العواصف ، تتساقط أوراقها في الخريف ... لكنها مع كل فجر جديد تُنبِتُ براعمَ خضراء . إنها لا تنتظر النجاة ، بل تخلقها من جديد . هذه هي حقيقة "مَن يعرف كيف يتجدد" ، أولئك الذين حولوا حياتهم إلى عملية خلْقٍ مستمرة لا تنتهي .
هم ليسوا أبطالًا خارقين ، بل بشرٌ أدركوا سرًا جوهريًا : أن الهزيمة لا تكمن في السقوط ، بل في التوقف عن النهوض والبناء.
💧التجديد : الفينيق الذي لا يُقتل :
ليس التجديد مجرد تعافي سلبي ، إنه فعلٌ ثوريٌّ متعمد ، هو القدرة على النظر إلى الركام بعد العاصفة لا بوصفه نهاية ، بل بوصفه مادةً أوليةً لبناءٍ جديد. من "يعرف كيف يلملم نفسه" لا ينكر الألم أو الخسارة ؛ بل يعترف بها ، يستخلص الدرر الكامنة في جوف المحنة ، ويبدأ في تشكيل ذاته من جديد ، كما يشكل النحات تمثالًا من الرخام الصلب. إنه يرفض أن تكون تجاربه السلبية نهاية المطاف ، بل محطات تحول نحو نسخةٍ أقوى وأكثر وعيًا.
🩸الدهشة والحب : الوقود الخفي :
كيف يجد المرء القوة للتجدد؟ السر يكمن في تلك "الدهشة والحب في ذاته أولًا". الدهشة هي عين الطفل التي ترى العالم بجماله وغموضه رغم القبح ، هي الفضول الذي يحول الروتين إلى مغامرة ، واليأس إلى تحدٍّ. أما الحب الذاتي، فهو ليس نرجسيةً أو غرورًا ، بل هو ذلك الاحترام العميق للذات ، والرأفة بها ، والإيمان بقيمتها الجوهرية حتى في لحظات الفشل الذريع . هذا الحب هو الحصن الذي يحمي الجوهر من سهام الخارج، وهو النبع الذي لا ينضب للعطاء الحقيقي للآخرين. من يمتلك هذين الكنزين في داخله ، يجد بوصلةً تشير دائمًا نحو النور، حتى في أظلم الليالي.
🩸معرفة القدرات والقدر : البوصلة والنجم :
"يعرف قدراته وقدره". هذه المعرفة هي حجر الزاوية في صرح الشخص الذي لا يُقهَر. معرفة القدرات (نقاط القوة ، المواهب ، الحدود الحقيقية) تمنحه واقعيةً وتركيزًا ، فلا يبدد طاقته في معارك مستحيلة أو يغرق في بحار التوقعات غير الواقعية .
أما معرفة "القَدَر" . ليس بمعنى الجبرية السلبية ، بل بمعنى إدراك الغاية الأعمق ، والرسالة الشخصية ، والقيم التي تستحق أن تُعاش وتُدافع عنها ، فهي التي تمنح حياته معنى يتجاوز الصعاب. إنها النجم القطبي الذي يهديه سواء السبيل عندما تضيع المعالم، فيتحول السعي نحو تحقيق هذا القَدَر الشخصي إلى قوة دافعة لا تُقاوَم.
💧لملمة الذات والنجاة من الهزائم : فن البناء فوق الأنقاض :
الهزيمة حتمية في مسيرة أي إنسان . لكن الفرق بين من يُهزم وينكسر ، وبين "من ينجو من الهزائم" ، يكمن في فن "لملمة النفس".
إنها تلك اللحظات التي يجلس فيها المرء مع جراحه ، لا ليلعن الظلامو، بل ليفحصها ، يضمّدها ، ويتعلم لغتها .
هي عملية جمع الشتات الداخلي ، استعادة الأنفاس ، وإعادة ترتيب الأولويات. النجاة تعني استخراج بذرة الحكمة من قلب الفشل ، واستخدامها كسماد لنمو جديد . إنها رفض للاستسلام ، وإعلان صامت : " هذه العاصفة أيضًا ستمر ، وأنا سأكون هنا ، أكثر صلابة مما كنت ".
🩸الصناعة اليومية للذات : العظمة في التفاصيل الصغيرة
وهنا يصل بنا القطار إلى المحطة الأكثر إشراقًا وإلهامًا : "لن تهزم شخصًا يصنع نفسه كل يوم". هذه الجملة ليست مجازًا ، بل هي خارطة طريق. صناعة النفس ليست حدثًا فخمًا يحدث مرةً واحدة ، بل هي ممارسة يومية متواضعة :
* قراءة القرآن تُغذى وتغسل القلب
* قراءة صفحة تغذي العقل.
* تأمل خمس دقائق تصقل الروح.
* خيار صحي واحد يحترم الجسد.
* كلمة طيبة تُقال للذات أو للآخر.
* درس مستفاد من خطأ اليوم.
* حدٌّ يُوضع لحماية السلام الداخلي.
* حلمٌ صغيرٌ يُحقَّق ، وخطوةٌ تُخطى نحو هدف أكبر.
في هذه الطقوس اليومية ، في هذا الالتزام الثابت بالبناء رغم كل شيء ، تكمن القوة التي لا تُقهر. إنهم لا ينتظرون الظروف المثالية أو الإلهام السحري ؛ هم يخلقون واقعهم لحظة ، بلحظة .
💧لذلك .. حين ترى إنساناً ينهض من كبواته ليس كمن يفرك جراحه ، بل كمن يمسح غبار المعركة عن درعه ويلمع شفرته من جديد ..
حين ترى عيناً لا تفقد بريقها رغم رؤية القبح ، وقلباً لا يتصلب رغم الجروح ، وروحاً تزرع بذور الأمل في تربة اليأس .. اعلم أنك أمام أسطورة حية :
أمام جبلٍ يرفض الذوبان في سيل الشكوى ،
أمام بحرٍ يرفض الجفاف حتى تحت لهيب الشمس ، أمام كائنٍ حوَّل سقوطه إلى رقصة ، وألمه إلى أغنية ، وفشله إلى وقود.
هؤلاء هم بناة العالم الخفيون .. الذين لا تسمع أصواتهم العالية ، لكنك ترى آثارهم في كل بقعة نور تخترق ظلام اليأس .
هم من يعلموننا أن الهزيمة الحقيقية ليست في السقوط .. بل في نسيان أننا نمتلك الأجنحة .
فلتكن منهم .. ولا تتوقف عن النحت في صخر ذاتك ..
حتى يبزغ منها تمثال النور الذي خُلقت من أجله .
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه