بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻
ليست مجرد لحظات تأخر في النوم ، بل رحلة قسرية في دهاليز الذات حين يهبط صمت الليل الثقيل. ندخل غرفة الحوار مع أنفسنا، نحدّق في السقف الذي يتحول إلى شاشة تعرض أفلامًا من صنع ذاكرتنا العنيدة. شيء عميق يدفعنا لهذا اليقظة القهرية : ندبٌ داخلي لم يندمل، صوتٌ لا ينفك يتردد، وقلقٌ يختبئ تحت ضجيج النهار.
💧ذلك "الشيء الذي لا يهدأ" أشبه بظلٍّ يلاحقنا، قد يكون خطيئةً قديمة، فرصةً ضائعة، أو حلمًا تحطم على صخرة الواقع. إنه ثقل الماضي الذي نحمله في صمت، يثقل كاهلنا حين نخلع أقنعة النهار. أما "الجرح الذي لم يُشفَ" فهو أكثر من ألم عابر؛ إنه شقّ في الروح، ذكرى فقدان مؤلم، خيانةٌ علقت كشظية، أو غفرانٌ لم نمنحه أو نناله. الزمن يغطيه بطبقة رقيقة من الغبار، لكنه ينزف من جديد في عتمة الليل.
🩸ويأتي "الصوت الذي لا يسكت" كقاضٍ صارم في محكمة الوجدان. هو تأنيب الضمير ، حوارات معلقة مع أنفسنا أو مع آخرين غابوا. هو صراخ الأسئلة التي لم تجد إجابات، والردود التي احتبست في الصدور .
في عزلة الليل ، يصبح هذا الصوت جليًّا، يحاكم تفاصيل الماضي ويُعيد تمثيل المشاهد بلا رحمة.
💧هنا تنبثق الرغبة الجامحة : العودة إلى شيء… أو النسيان منه . العودة إلى زمن كان الجرح مجرد خدش، إلى اللحظة التي سبقت الخطيئة أو الخذلان. أو نتمنى لو نمسح تلك الصفحات الأليمة من كتاب الذاكرة ، نطلب النسيان كخلاص من ثقل لا يحتمل. لكن الطريق إلى الماضي مغلق، والنسيان الحقيقي وهمٌ يطارده الألم.
🩸فلماذا الليل ؟ لأنه الزمن الوحيد الذي نخلع فيه الأقنعة. النهار مشغول بالتمثيليات، أما الليل فيجردنا من الأردية، ويجبرنا على مواجهة أنفسنا بكل هشاشتها. الظلام يوسّع مساحة التأمل، والصمت يضخم أصواتنا الداخلية. تصبح الغرفة مسرحاً للحوارات المعطلة، والسرير منصة للاعتراف الصامت.
💧لا هروب من هذه المحكمة الليلية ، ولكن فهم طبيعتها هو بداية التعايش معها . الاعتراف بأن هذا الصوت الداخلي ليس عدواً، بل حارساً لأخلاقياتنا. وأن الجرح ليس عاراً، بل شاهداً على تجربة عاشتها الروح بعمق . ربما القوة ليست في إسكات الصوت، بل في استخلاص حكمة منه. ليست في محو الجرح ، بل في تحويله إلى مصدر للتعاطف مع ذواتنا والآخرين. وليست في قتل ذلك القلق، بل في توجيه طاقته نحو فعل إيجابي هنا والآن : إصلاح ممكن ، غفران متبادل ، أو مجرد قبول بسلام.
🩸فهذه السهرات الطويلة ، رغم مرارتها، هي دليل صامت على نبض الحياة فينا. شهادة على روح ما زالت تشعر وتتألم وتتوق .
نعم ، لن نعود إلى ما قبل الجرح ، ولن نمحو الذكريات الأليمة تماماً، لكننا نستطيع أن نختار كيف نحمل هذا الثقل : كسجناء للماضي، أو كمسافرين يستمدون من الألم بصيرةً أعمق.
💧فليكن سهرنا هذا ... شمعةً تنير زوايا الروح المنسية ، وليكن ألمنا ... دليلاً صامتاً على أننا ، رغم كل شيء ، ما زلنا ننبض بالحياة .
ففي قاع الظلمة ، يبقى ذلك النور الخافت داخلنا رفضًا للانطفاء ، وتأكيدًا على إنسانيتنا الهشة التي ترفض أن تستسلم ، حتى عندما لا يتبقى سوى الصمت وأطياف الماضي .
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه